Saturday, February 20, 2010

نعى

فى الذكرى السنوية الأولى لوفاة والده؛ يتولى بنفسه إجراءات نشر النعى فى إحدى الصحف العريقة. لا يعلم سببا لمتابعة صفحة الوفيات إلا إطمأنان قارئيها أنهم بعد لم يفارقوا الحياة؛ إذ يتأكدون من غياب صورهم وأسمائهم، مؤقتا، من الظهور فى الصفحة قبل الأخيرة من الجريدة. رغم عدم إقتناعه بجدوى هذه المراسم إلا أنه يتعامل مع الأمر بجدية تامة إكتسبها من والدته؛ إذ تولى؛ بطبيعة الوضع الإجتماعى المرموق للعائلة؛ إهتماما مبالغا فيه لهذه الأمور.
..........
خرجت مهرولة من غرفة جانية تتفقد بسرعة أوراق ملف تحمله. تلاقت عينيهما للمرة الأولى منذ ثلاث سنوات؛ توقف عن السير، وتراجعت هى خطوتين للوراء، وقد تخلت عن مراجعة أوراقها، لتقف قباله تماما. لثوانٍ وقفا يتأملان بعضهما فى صمت، قبل أن تبادر، بجرأتها المعهودة، بالكلام:
هى: جاى تعمل أيه فى الجرنال بتاعى؟
هو مبتسما: ده جرنال الحكومة
هى: طيب جاى تعمل أيه فى جرنال الحكومة؟
هو: جاى أنشر نعى فى الذكرى السنوية لوالدى
هى بنبرة حزينة: أنا أسفة جدا .. البقاء لله
هو مشتتا تعاطفها:ونعم بالله، إنت شغالة هنا؟
هى: لسة فى فترة تدريب .. بس قريب هبقى رئيسة التحرير
هو مبتسما: لم تتغيرى!
..........
إكتفت بإبتسامة وطلبت منه إنتظارها حتى تسلم مقالتها لرئيسها فى الغرفة المقابلة.
..........
راح يتابعها وهى تحادث رئيسها بشغفها المعهود، مشعة دائما وفى أى مكان. لا يدرى كيف إتفقا على الفراق بهذا البرود، كان الفارق الإجتماعى بينهما كبير، كانت كنجمات أفلام الأبيض والأسود القديمة، لكنه لم يكن أبدا كأبطال هذه الأفلام؛ ودون مقاومة؛ إستجاب لنصائح أبيه ومعارضة أمه.
..........
سرت قشعريرة فى جسده كمن صعقته الكهرباء فى مسبح حين رأى لوحته معلقة فوق مكتبها؛ شمس برتقالية باسمة ترتدى عوينات طبية ترسل أشعتها كأحرف عربية مبعثرة وقد توهجت حروف أسمها فيها بلون نارى. كانت أول من أهداه كتابا باللغة العربية؛ تتصل به ليلا لتقرأ له ما أعجبها منه، وتفسر له ما إستعصى عليه فهمه. بيده أضاع شهرزاده وأطفئ شمس الحروف المبعثرة.
..........
هى: معلش كان لازم أعرض المقال على رئيس القسم قبل ما يمشى.
هو: لسة عندك لوحة الشمس والحروف؟
سكتت ثوان خجلة قبل أن تجيبه مازحةً: صورتى وعجبانى
هى محولة مسار الحديث عن الصورة: ما رسمتش حاجات جديدة؟
هو: مش قادر أرسم خالص .. مش عارف ليه
هى: حرام عليك لازم ترجع ترسم زى الأول
..........
راحت تذكره بلوحاته وتمدحها كمحاورة فى برنامج تليفزيونى عن الفن التشكيلى لا يشاهده إلا من أضاع جهاز التحكم عن بعد أو من سأم تغيير المحطات الفضائية المكرورة. أما هو فكان كضيف هذا البرنامج؛ يجادلها متمنيا ألا ينتهى الحديث وهو يعلم تماما أنها قريبا تنهيه، وأنه سيعود إلى الظل كما كان.
..........
مرت دقائق كلامه معها مسرعة، ينتابه شعور متناقض؛ يتمنى أن يمضى يومه فى حديثه معها فى ذات الوقت يأمل نهاية اللقاء وراحته من من التفكير فى التمرد على الحياة الرتيبة التى إختارها بعدها.
..........
غابت عن ناظريه بعد حديثهما القصير تاركته فى حيرة لم تنتهى بنهاية لقائهما، ظل واقفا فى مكانه يتحسس قصاصة ورقية فى جيب سترته تحوى صيغة النعى، شاردا فى حاله، ناقما من ضعفه؛ إذ لا يدرى ما الذى يمنعه من أن يلحق بها كنهاية الأفلام العربية متحديا حاله متجاهلا عذاله، لكن يبدو أنه نعى فرصته لوَصلِها منذ فراقهما الأول بلا عزاء، فما تُغَيرُ ذكراها؟!
..........
عاد أدراجه من حيث أتى وقد ألقى نص النعى فى سلة المهملات، عاد رافضا أن يتم مهمته البرجوازية؛ عاد وقد صار يدرى لماذا لم يعد قادراً على الرسم منذ ثلاث سنوات.
..........
أقَصْرَ حُمَيدٍ! لا عَزَاءَ لمَغْرَمِ ... وَلا قَصرَ عن دَمعٍ، وَإن كان من دمِ
أفي كُلّ عَامٍ لا تَزَالُ مُرَوَّعاً ... بِفَذّ نَعيٍّ، تارَةً، أوْ بتَوْءَمِ
(البحترى)

..........
..........

عمرو عشماوى (20-02-2010)