Tuesday, August 26, 2008

للأوهام حجتها كذلك


أشارت عقارب الساعة فى يده إلى تمام الثانية بعد منتصف الليل حين أوقف سيارته فى إحدى شوارع القاهرة القديمة. نزل من السيارة؛ رجلٌ فى منتصف الثلاثينات يرتدى بنطلون جينز وسترة جلدية سوداء يحتمى بها من برد هذه الليلة الشتوية الكأيبة.
....................................
رغم إكتمال البدر فى السماء، كان بالكاد يرى موضع قدميه وهو يتقدم بحرص نحو أحد أكثر أضرحة القاهرة القديمة شهرة، مَثَلَ أمام الضريح، وبحركة آلية مدَ يده فى جيب سترته وأخرج شمعةً ثبتها فى أحد الثقوب فى نافذة الضريح، ثم أخرج علبة الثقاب من جيب السترة الآخر، التقط عودا وأشعله، لم يلبث عود الثقاب إلا أن إنطفئ قبل أن يصل إلى الشمعة، ساعتها تنبه أن يده ترتعش بشدة، ظن لوهلة أن إنطِفاء عود الثقاب ما هو إلا إشارة من الله بخطأ ما هو مُقدم عليه، فلم يكن يظن أبدا أنه من الممكن أن يأتى يوماًَ ويقف فيه متوسلا بشمعة عند ضريح رجلٍ غادر الحياة من مئات السنين، وهو الذى أشتهر برجاحة عقله ومنطقية تفكيره، بل كم كان يسخر ممن يقفون فى مثل موقفه ويتهمهم بفساد العقل وأنهم يسعون وراء أوهام ما أنزل الله بها من سلطان.
....................................
أوهام .. نعم هى أوهام لكن؛ قد حار العلم فى مرضه، لقد خرج منذ ساعات من عيادة أحد أشهر الأطباء بجواب لم يزد شيئا عن جواب أصغرهم؛ "مرض نادر لا يوجد له علاج". طول حياته التى أصبحت مهددة بمرضه الغريب وهو يتبع عقله؛ يجتهد فى عمله ساعيا للثراء، يتأنى فى إختيار زوجته ساعيا لحياة زوجية سعيدة، يؤجل الإنجاب ليضمن لأطفاله حياة كريمة، كل هذا ولم يحقق مبتغاه وكأنه سعى طوال حياته وراء وهمٍ تخفى فى صورة عقل، فلماذا لا يجرب الأوهام هذه المرة!
....................................
هدأ قليلا وكفت يداه عن الإرتعاش، أشعل عود ثقاب آخر وقرّبه بحرص حتى أشعل شمعته التى ضاهت كذبا البدر فى السماء حين أضاءت الضريح. تقهقر عدة خطوات مبتعدا عن الضريح دون أن يدير وجههه عنه وهو يراقب شمعته التى أخذ الهواء يعبث بضوئها؛ فيخفت للحظات ثم يعود ليضئ مجددا تماما كالإيمان فى قلبه، أدار وجهه عن الضريح تاركا شمعته تبث شكواه عند من لا جواب عنده، واتجه إلى سيارته يجول فى ذهنه بيت حمزة شحاته:
للعقل حجته ... وللأوهام حجتها كذلك
....................................
....................................
عمرو عشماوى 26-8-2008