Friday, February 16, 2007

وطنى لو شغلت بالخلد عنه

من أسابيع قليلة ماضية كنت فى طريقى إلى المنزل فى حوالى الثانية عشر بعد منتصف الليل, كنت عائدا من بيت أحد أصدقائى و قد أرتدت أحدى الميكروباصات المتجهة إلى ميدان رمسيس, كان من المفترض أن يوصلنى هذا الميكروباص بالقرب من منزلى لكن شعور ما قادنى إلى عدم النزول بالقرب من المنزل ربما هو الملل أو الرغبة فى كسر جمود الروتين اليومى لم افكر فى السبب فقط نظرت إلى حيث كان المفترض بى أن أنزل و أكملت راكبا و قدد قررت أن أنزل بعد قليل و أعود هذه المسافة مرة أخرى, و لمرة ثانية فوّت عامدا حيث كان المفترض بى أن أنزل!. و قررت أن أنهى طريقى مع نهاية الخط المحدد؛ فى ميدان رمسيس.

كانت الساعة قد وصلت إلى الثانية عشر والنصف بعد منتصف الليل حين وصلت إلى ميدان رمسيس, كانت المرة الأولى التى أذهب فيها إلى الميدان بعد مغادرة تمثال رمسيس الشهير له, لم يترك التمثال فراغا كبيرا كما تخيلت. رغم تأخر الوقت كان المكان ممتلأَ بالحياة، البائعين فى كل مكان الكثير من الناس هنا وهناك وقد بدى أن عواميد الإنارة أوشكت أن تنسى الناس أن الليل قد حل بل و قد مر منتصفه. كنت سعيدا جدا؛ سعيدأَ بكل ما حولى؛ كانت الأنوار قد أضفت جوا رائعا على أشهر الميادين المصرية.

رحت أتجول فى أرجاء الميدان وأراقب الباعة و أشاهد البضائع المختلفة، كان باعة الجرائد هم الأكثر تواجدا وقد بدى التطور على هذه المهنة فلم يقتصر الأمر على الجرائد والمجلات بل قد تواجد الكثير من الكتب والأسطوانات المدمجة, رحت أتأمل الكتب الموجودة؛ "كيف تختار شريك حياتك" و"طب الأعشاب" و"فنون القتال" كتب معظمها سطحى بالأضافة إلى بعض الكتب الدينية الشهيرة أو المثيرة ولكن كانت الأسطوانات هى الأكثر إثارة كانت معظمها لأفلام عربية أو أجنبية لم أسمع عنها من قبل و قد لفت نظرى فيلم اسمه "خطيئة أمرأة" وبطلته ممثلة غير مصرية تدعى "إغراء" لكم أن تتخيلوا البوستر (خطيئة أمرأة بطولة إغراء) و هكذا فمعظم الأفلام على هذه الشاكلة. غادرت وقد أرتسمت إبتسامة بلهاء على شفتى مستمتعا بما رأيت ولم يؤرقنى هذا التناقض الواضح فالأفلام المثيرة تعرض جنبا إلى جنب مع الكتب الدينية وكأنما يعكس هذا المشهد حال معظم أبناء هذا البلد المتدينين بشكل فطرى ويولون إهتمام خاص بفروع الدين ومتناقضته متجاهلين بعض الأصول وفى نفس الوقت تجد إهتمام مماثل للمواضيع المثيرة أو الجنسية.

كنت مستغربا من نفسى ومن حالة الإنتشاء الغريبة التى أشعر بها كنت سعيدا بكل ما أرى مبتسما لساعة كاملة أتابع كل ما يدور حولى برضى لا تؤرقنى التناقضات الجلية ولم أكن مستاء من الزحام كعادتى. كل شئ كان يروقنى هذه الليلة. للحظة فكرت فى ما يجرى وقد قلت فى نفسى كأنى قريبا أسافر .. أو أموت.

تذكرت بيت من الشعر قد نظمه أحمد شوقى على ما أظن:
وطنى لو شغلت بالخلد عنه *** لراودتنى إليه فى الخلد نفسى

فى هذه الحظة أدركت أن أحمد شوقى لم يكن مبالغا كما ظننت. فلربما راودتنى نفسى - إن حظيت بالخلد والنعيم - إلى ساعة كتلك؛ ساعة أحب فيها كل ما حولى بغض النظرعن إن كا خطأ أو صواب؛ أحبه فقط لأنه على أرض وطنى, نعم ربما تراودنى نفس إلى مكان أحبه لا لجماله ونظامه وإنما لإنتمائى إليه.

منذ أيام كنت أتحدث مع صديق لى يعمل فى المملكة العربية السعودية منذ ما يقرب من أربعة أشهر، وبعد السؤال عن الحال و ماشابه أخبرنى أنه يفتقد بشدة الجلوس على المقاهى و قد تعجب من خلو المملكة العربية السعودية من المقاهى. لم أعلق على كلامه فى المرة الأولى فقد كنت أقدر مشاعره تماما و لم استغرب حين تذكرت أنه كان يتذمر ويمل من كثرة ارتياد المقهى المجاور لنا, وأستطرد فى الكلام وقال أنه أحيانا يتمنى أن يشرب المياه الغازية فى عبوتها الزجاجية المعهودة من الكشك فأيضا لا توجد أكشاك فى المملكة, هذه المرة لم أكتفى بالسكوت لكن لم أملك إلا أن أقول "إبقى اشرب كانز يا عبد الرحيم" كان من الأفضل التطرق لموضوع آخر فقد تكون نهاية هذا الكلام غير محمودة, فيكفى أن تراوده نفسه إلى وطنه ولكن ليس من المفترض أن يعود قريبا.

لطالما كنت رافضا لفكرة السفر وتمنيت أن لا أغادر بلدى أبدا ولكن لم يكن الأمر سهلا كما ظننت. فعندما عرض على العمل بالخارج وعلمت بالعائد المادى الكبير طمعت بالخلد. تعبت من التفكير فى الأمر ولم يكن هناك متسع من الوقت للتفكير. كان الجميع ينصحنى بالسفر ومغادرة البلاد ساعتها تذكرت بيتين من الشعر كانا يزيدا من حيرتى كلما فكرت فيهما:
الكحل نوعُ من الأحجار منطرحا *** فى أرضه كالثرى ملقى على الطرق
لما تغرب نال العز أجمعه *** وصار يحمل بين الجفن والحدق


بعد أن استخرت الله آثرت البقاء فى بلدى؛ آثرت أن أظل منطرحا فى أرضى كالثرى أرتاد المقاهى وأشرب المياه الغاذية من الأكشاك, أتجول فى ميادينه وأعيش تناقضاته ومشاكله؛ فضلت أن أظل ملقى على الطرق فى بلدى على أن أحمل بين الجفون فى بلد غريب.

عمرو عشماوى 15-02-2007