Monday, March 24, 2008

محاكمة روحية

بدت قاعة المحكمة كعادتها، منصة القضاة فى صدر القاعة، مدعى النيابة على يمينها ومقاعد للحاضرين تستقبلها، إمتلئت القاعة بالحضور، بدا كل شئ كأنه طبيعى، غير أن قفص الأتهام لم يكن موجوداً كعادته، فقد حل مكان قضبانه مجموعة من المباخر شكلت نصف دائرة جالس فى منتصفها رجل جاوز الثمانين من العمر يفتح أمامه كتاب يدل لون وطول صفحاته على عتاقته.

أنطفأت الأنوار وأشعلت المباخر، أصبحت القاعة مضاءة بنور المباخر بالإضافة إلى بعض الشموع فى آخرها. بدأ العجوز فى منتصف دائرة المباخر يتمتم بكلمات غير مفهومة. ساد صمت مطبق على المكان، إحتبست الأنفاس، وفجأة ارتجت القاعة بصوت طرق إنخلعت معه القلوب، مضت لحظة صمت ثم تكرر صوت الطرق مرة أخرى تزامن معه ظهور رجل فى آخر القاعة بدا واضح من ملابسه وهيئته أنه مختلف عن باقى الحضور .. تركزت الأنظار عليه، تابعته عيون الحاضرين بشغف و إنبهار، فقد كان رجلا ليس من هذا الزمان!

عمامة حمراء تدلت من أطرافها خصلات شعر إصطبغت بلون نارى عَلَت رأس القادم الغريب. لحية كثة ضاهى لونها لون بعض خصيلات شعره التى خالطتها، وعبائة وافق لونها لون عمامته. مشى الرجل بخطوات ثابتة حتى أستقر فى منتصف دائرة المباخر الناقصة. هدأ دخان المباخر، وأخذ الرجل يتفقد من حوله فى ذهول وقد هجر الغمض أجفانهم لمدة ثلاث دقائق كاملة قبل أن يفيق القاضى من دهشته وينظر خلفه إلى الحاجب ويشير إليه بصرم حلّ عقد لسانه لينطق أولى الكلمات الواضحة فى هذه الجلسة، لتدوى أصدائها فى ظل صمت مهيب معلنة أسم المتهم: "الحجاج بن يوسف الثقفى"

القاضى: يا أمير .. مرت بالعراق نكبات جسام، وقد انقضى عهد من الظلم والإستبداد أُختُتِم بمحاكمة عادلة أعادت الحقوق وخففت بعض الكروب. وقد رأينا أنه إتماما لما بدأنا يتوجب علينا رد المظالم وتحقيق العدالة فى كل تاريخ العراق آملين أن يهدأ الحال ويدوم السلام. وليس بمقدورنا فى هذه المحاكمة تغيير الأقدار وإنما هى محاولة لإحقاق الحق ودفع المظالم. وعليه فإنك متهمٌ أنك من أصحاب النار. وقد عينت المحكمة محامى للدفاع عنك. هل حضر المحامى؟

المحامى: سيدى القاضى .. حاضر مع المتهم.

القاضى: مدعى النيابة .. من فضلك وضح حيثيات الإتهام.

مدعى النيابة: بسم الله العزيز الجبار، القائل فى كتابه – وقوله الحق- "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا" صدق الله العظيم. لقد قاد الحجاج العراق فى زمن أُستُهين فيه بدماء الرعية، وأُستُبيحت كرامتهم، وهُدد أمنهم، وشُتت شملهم، وقُيدت حرياتهم. وقد تجاوز المتهم (الحجاج بن يوسف الثقفى، أمير العراقين) فى بطشه وتجبره المعهود، حتى أصبح مضرب للمثل، وأُحجية تتنافلها الأجيال على مر العصور. وإنا نوجه إلى المتهم (الحجاج بن يوسف الثقفى) إتهامنا له بأنه من أصحاب الجحيم.

القاضى: يا حجاج .. هل لديك تعليق على الإتهام؟

الحجاج: هل لا تزال الخلافة فى بنى أُمَيْة؟!

تعالت همهمة فى قاعة المحكمة من الحضور إثر سؤال الحجاج أصابته بالضجر. وقطع القاضى تلك الهمهمة مخاطبا المحامى بأن يبدأ مرافعته.

المحامى: بسم الله الرحمن الرحيم. سيدى القاضى .. بداية أسجل إعتراضى الشديد عن توجيه تهمة القتل لموكلى؛ فلا يُأخَذ ولى الأمر بدم ولا يُقضى عليه بقصاص، لأنه حين يقتل فهو يُنفِذ القانون. فإن تجاوز وشَطّ فالظلم هو أقصى ما يُأخَذ عليه. وإنما العدل و الظلم ككفتى ميزان تُُرَجِح ملابسات الأحداث والظروف أحدهما على الآخر، فلا يوجد خارج حدود الله عدلٌ مطلق أو ظلمٌ مطلق، وببعض التدقيق نجد فى زمن الحجاج ما يبرر قسوته. فقد تولى الحجاج زمام الأمر فى العراق فى زمن تعاظمت فيه الفتن حتى كادت أن تعصف بالأمة والخلافة، ففلول أتباع بن الزبير فى شبه الجزيرة العربية، والخوارج يعوثون فى الأرض فسادا فى ثورتهم المزعومة، يطمحون إلى كرسى الخلافة فى دمشق. الخوارج أيها السادة .. الخوارج فى ذاك الزمان أشد خطرا من الروم. خطر داهم يزيد مع الوقت، تصدى له الحجاج بعزمه وصرامته. نعم بعض القسوة، ولكن .. ولكن الغاية عظيمة. تسيير جيش عظيم من العراق لوقف زحف هذا الخطر الداهم والحفاظ على الخلافة ووحدة البلاد. إنها الغايات العظام التى تبرر بعض القسوة.

مدعى النيابة: قسوة مبررة! إنها المبالغة يا سيدى. طريقة قديمة ومعهودة، المبالغة فى تصوير خطر العدو لتبرير الأخطاء الجسام. ألم يكن الخوارج يدينون بالإسلام؟! إن ثورة الخوارج لم تتعدى خلاف سياسى طبيعى.

المحامى: خلاف سياسى! إن إنتماء الخوارج للإسلام هو ما عظّم الخطب وأجله، فإن أعظم الخطر ما يأتى من الداخل. فلو نظرنا إلى منهجهم فى ...

القاضى: ليس هذا المجال لمناقشة منهج الخوارج وخطرهم. فلنستمع إلى الشهود.

الحاجب: الشاهد الأول .. سعيد بن جبير

للمرة الثانية إشتعلت المباخر، وبدأ العجوز صاحب الكتاب العتيق فى التمتمة مرة أخرى. بينما أصاب الحجاج وجوم وذهول حين سمع اسم سعيد بن جبير، وكأنما تذكر حلم قديم رأى فيه أنه قامت الساعة وأنه قُتل من كل فرد قَتَلَه مرةً بنفس الطريقة التى قتله بها وأنه قُتل من ابن جبير سبعين مرة. بدا الحجاج واجما غارقا فى ظنونه حتى أنه لم يسمع صوت الطرقات التى علت فى القاعة، فقد بدأ يعتقد أن تلك هى أول قتلة من سبعين بن جبير.

تنبه الحجاج حين مثل بن جبير بين يدي القاضى. رجل أسود الوجه، أفطس الأنف، ذو لحية طويلة بيضاء يخالطها بعض السواد.

القاضى: بن جبير .. أيها الشيخ الفاضل .. إن الحجاج متهم بأنه من أصحاب الجحيم. فهل تقر هذا الإتهام؟

بن جبير: وكيف لى أن أقر أمرا بيد الله؟

مدعى النيابة: بالعلم يا بن جبير. ألم يبين الله حدوده؟ ألم يُفَصّلَ أوامره ونواهيه؟

بن جبير: بلى .. وإنما بيّن الله الحدود ليُحكَمَ بها فى أمور الحياة، أما فى أمور الآخرة فلا حكمَ عيره سبحانه وتعالى.

مدعى النيابة: إذا فلتقضى بشأنك. ألم يُشّردك الحجاج سنين؟ ألم يظفر بك ويقتلك وأنت العالم التابعى الجليل؟ أفلا تقتص لنفسك يا بن جبير من طاغية مبير؟!

ساد صمت عميق، وخالط الترقب قلوب وعقول الحضور، ولأول مرة بدا القلق واضحا على وجه الحجاج منتظرا إجابة بن جبير، وكأنما قد رضى مسبقا بحكمه.

بن جبير: إنما القصاص يوم القصاص، عند حكمٍ العدلُ من أسمائه. قصاصٌ عند خبير عليم.

إنصرف بن جبير تاركا من خلفه فى حيرة عظيمة. فلم يدر الحجاج أيفرح أم يحزن بهذا الجواب! ففى القصاص ذل له وفى الإعراض توبيخ.

المحامى: سيدى القاضى .. لقد رفض شاهد الإثبات أن يقر التهمة على موكلى وبذاك أطالب ببراءته.

مدعى النيابة: إن الشاهد وإن لم يقر التهمة فلقد أقر الذنب. وبذاك أطالب بإثبات التهمة على المتهم.

المحامى: سيدى القاضى .. إنا وإن أثبتنا التهمة على موكلى فبذاك نتهم رجلٌ وصلت الدولة الإسلامية فى عهده إلى أكبر إتساع لها بأنه من أصحاب النار. دولة من الأندلس غربا إلى حدود بلاد الصين شرقا تحت إمرة خليفة واحد. دولة تهابها الممالك فى شتى أنحاء الأرض بعد أن كانت مقسمة، ومنشغلة بالفتن. الحجاج أيها السادة أميرٌ منشغلٌ بعز بلاده يُسَيّر الجيوش ويقمع الفتن. إنى أطالب ببراءة الحجاج من التهمة الموجهة إليه، فإن لم تكن البراءة لأجله فمن أجل أمراء هذا الزمان! فلو كان الحجاج من أهل النار فما ظنك بمن ضاعت البلاد والعباد فى عهدهم؟! إن الحجاج ...

القاضى: مالنا ومال هذا الزمان! لقد خرجت عن الموضوع! الحُكم بعد المداولة.

تعالت الأصوات فى القاعة وإنشغلت كل مجموعة بمناقشة الأمر على إنفراد وكأنما ظنوا أنهم هم من سيصدر الحكم. لم يمض وقت طويل حتى قاطع صوت القاضى الحضور معلنا حكمه.

القاضى: حكمت المحكمة على المتهم الحجاج بن يوسف الثقفى بأنه من أصحاب النار. رُفعت الجلسة.

على غير المعتاد؛ بعد صدور الحكم خيم صمت مطبق على الجميع قطعه الحجاج قائلا من نظمه:
يا ربِ قد حَلَفَ الأعداءُ واجتهدوا ... أيمَانَهُم أني من ساكني النارِ
أيحلِفـونَ على عميـاءِ؟ ويــحُـهــم ... ما ظَنُهُم بعظيمِ العفوِ غفـارِ

غادر الحجاج دائرة المباخر واتجه نحو باب الخروج فى ظل ترقب وصمت مهيب. تبعه المحامى مهرولا.

المحامى: سيدى هذه البطاقة عليها إسمى، ربما إحتجتنى لاحقا.

أخذ الحجاج البطاقة فى صمت دون أن ينظر فيها. ثم ألتفت مكملا طريقه للخروج. لحظات ثم لاحظ المحامى بطاقته وهى تسقط ممزقة من يد الحجاج قبل أن يختفى عن الأنظار. إتجه المحامى إلى بطاقته يلملمها من على الأرض وهو يفكر فى الحجاج؛ ربما أنه ضاق ذرعا بكل من فى القاعة لذلك مزق البطاقة. نعم ربما. وربما مزقها لأن أهل الجنة لا يحتاجون لمحامى للدافع عنهم!


عمرو عشماوى (25-03-2008)